بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه ،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
أما بعد
فهذا بحث موجز عن الدعاء وفضله وآدابه ، حاولت أن أجمع فيه باختصار ما استطعت من آداب الدعاء ومعانيه ولم يسعفني الوقت لأكتب ما كنت أتمنى من قصص مؤثرة تدل على فضل الدعاء وأثره وبعض القضايا المتعلقة بالدعاء مثل السجع في الدعاء والتوسل بالعمل الصالح والتوسل بحي أو بميت في الدعاء وغيرها من العناصر التي كنت أود معالجتها في هذا البحث .
ومع كل ذلك فالحمد لله على توفيقه لي أولا في القراءة والاطلاع والاستفادة بمعلومات جديدة تعلمتها خلال قراءتي وجمعي لهذه المعلومات،واستشعار أهمية الدعاء والتضرع ثانيا ، وأعتذر للقارئ الكريم على الإيجاز وعدم استيفاء عناصر الموضوع كما أسلفت.
وقد قسمت البحث إلى ثلاثة مباحث أساسية بعد المقدمة وهي :
1 – المبحث الأول : مفهوم الدعاء
2 – المبحث الثاني : من آداب الدعاء
3 - المبحث الثالث : أهمية وأثر الدعاء
وبعد فما كان من توفيق فمن الله ،وما كان من تقصير فمن نفسي ومن الشيطان ، والله برئ منه
والله أسأل أن يجعل هذا الجهد خالصا لوجهه الكريم وأن يرزقنا حسن التوجه وحسن الداء ،ويرزقنا ألسنة دائمة الذكر والدعاء ، إنه ولي ذلك والقادر عليه
وصلى الله وسلم على نبينا محمد خير البشر ، خير من دعا ربه وذكر ، وعلى آله خير آل ومعشر ، وعلى أصحابه الميامين الغرر ، وعلى التابعين ومن تبعهم إلى يوم البعث والمحشر ،،،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الفقير إلى عفو مولاه / كرم محمد مصطفى
2/5/1431هــ
المبحث الأول : مفهوم الدعاء
الدعاء هو الرغبة إلى الله عز وجل واستدعاء العبد ربه العناية واستمداده منه المعونة ، وحقيقته : إظهار الافتقار إلى الله والتبرؤ من الحول والقوة ، وهو سمة العبودية واستشعار الذلة البشرية ، وفيه معنى الثناء على الله عز وجل وإضافة الجود والكرم إليه .
جاء في لسان العرب : معنى الدعاء على ثلاثة أوجه :فضرب منها توحيده والثناء عليه كقولك : يا الله ل إله إلا أنت ، وكقولك ربنا ولك الحمد إذا فعلته فقد دعوته بقولك ربنا ثم أتيت بالثناء والتوحيد .
والضرب الثاني مسألة الله العفو والرحمة وما يقرب منه كقولك : اللهم اغفر لنا .
والضرب الثالث مسألة الحظ من الدنيا كقولك : اللهم ارزقني مالا و ولدا.
وأما قوله تعالى: ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) سورة يونس ( الآية 10)، يعني أن دعاء أهل الجنة تنزيه الله وتعظيمه وهو قول ) وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) أخبر أنهم يبتدئون دعاءهم بتعظيم الله وتنزيهه ويختمونه بشكره والثناء عليه .
والدعوى هنا معناها الدعاء .
وروي عن النبي - - أنه قال : ( الدعاء هو العبادة ثم قرأ قوله تعالى ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) غافر 60
وقال مجاهد في قوله تعالى ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) قال : يصلون الصلوات الخمس .
وروي مثل ذلك عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى ( لن ندعو من دونه إلها ) أي لا نعبد من دونه إلها وقال عز وجل : ( ولا تدع مع الله إلها آخر ) أي لا تعبد .
والدعاء : الرغبة إلى الله عز وجل حكاه سيبويه في المصادر التي آخرها ألف التأنيث و أنشد لبُشَير بن النِّكث :
ولَّت ودعواها سديد صخب
( لسان العرب لاين منظور ج14 ص 257 .ط3 دار صادر – بيروت )
ومن أهم المعاني التي استطعت أن أجمعها من آيات القرآن الكريم وما تدل عليها ما يلي :
- مجرد النداء : بمعنى أن ينادي عليه بما ينبه للالتفات أو التنبيه أو الحذر ومنه قوله تعالى : ( إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا منذرين ) سورة النمل ( الآية 80) وقوله تعالى ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض ) سورة الروم (25).
- التسمية والادعاء : مثل : دعوت المولود محمد ا ، أي سميته محمدا وبهذا المعنى استعملت في قوله تعالى: ( تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا . أن دعوا للرحمن ولدا ) مريم 90-91.
- الطلب والاستغاثة والاستعانة واللجوء : وهو أكثر المعاني الواردة في القرآن للفظة الدعاء ومشتقاتها مثل قوله تعالى :
( هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ) آل عمران 38 ، وكذلك في قوله تعالى ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) غافر 60، وقوله ( وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين )الأعراف 56.
- المعنى الرابع وهو العبادة وهو قريب من المعنى السابق ومتداخل معه في كثير من المواضع ، وذلك لأن الدعاء من العبادة أو كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – الدعاء هو العبادة ، ومن المواضع التي ورد فيها الدعاء في القرآن بمعنى العبادة قوله تعالى : ( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم )فالدعاء هنا بمعنى العبادة
المبحث الثاني : من آداب الدعاء
وللدعاء آداب يجب أن تراعى ، إنه إخلاص القلب لله والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها ، أو تخصيص وقت أو ظرف ، فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال .
والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله تعالى , والاستجابة فضل آخر وقد كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول : أنا لا أحمل هم الإجابة إنما أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه ) ، وهي كلمة القلب العارف الذي يدرك أن الله حين يقدر الاستجابة يقدر معها الدعاء فهما - حين يوفق الله – متوافقان متطابقان فأما الذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة وفي هذه الحياة الرخيصة وتنسى ضخامة خلق الله فضلا على نسيانها عظمة الله – عز وجل .
( في ظلال القرآن – سيد قطب ، ج 24، ص87 طبعة دار إحياء كتب التراث ).
ومن آداب الدعاء المعروفة والتي وردت في آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم –ما أوجزه فيما يلي مستعينا بالله تعالى :
أولا : التماس أوقات الإجابة والأحوال الشريفة التي هي مظنة إجابة الدعاء ومن هذه الأوقات :
1- وقت التنزُّل الإلهي : عن عمرو بن عبسة أنه سمع النبي - -يقول
أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر ، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فافعل ) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (1173)
وعن جابر - -أن النبي - - قال : ( إن من الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرا إلا أعطاه ) وزاد الإمام أحمد : ( وهي كل ليلة ) رواه مسلم ( 757 ) وأحمد ( 14788)
2- في السجود : عن ابن عباس - -أن النبي - - قال : (وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء ، فقمن – أي جدير – أن يستجاب لكم )رواه مسلم ( 479).
3- بين الأذان والإقامة : قال صلى الله عليه وسلم - : ( الدعاء بين الأذان والإقامة مستجاب فادعوا ) صححه الألباني في صحيح الجامع ( 3405).
4- عند الأذان : قال النبي - - : ( إذا نادى المنادي فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء )رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 818 ).
5- عند لقاء العدو : عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ( ثنتان لا تردان : الدعاء عند النداء ، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا ) أبو داود ( 2540).
6- عند نزول المطر : عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – - ) ووقت المطر ) أي من أوقات الإجابة صححه الألباني في صحيح الجامع (3078)
7- آخر ساعة من نهار الجمعة : عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : ( يوم الجمعة ثنتا عشرة – يعني ساعة – لا يوجد مسلم يسأل الله عز وجل شيئا إلا آتاه الله إياه ، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر ) رواه أبو داود (1048) وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 8190)
8 – دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب : قال رسول الله - - : ( دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل ، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به : آمين ، ولك بمثل ) رواه مسلم ( 2733)من حديث أبي الدرداء .
9 – دعوة المسافر :قال رسول الله - - ( ثلاث دعوات مستجابات اشك فيهن : دعوة الوالد ودعوة المسافر ، ودعوة المظلوم ) رواه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني .
10 – دعوة الصائم : قال رسول الله - -: ( ثلاث دعوات مستجابات : دعوة الصائم ، ودعوة المظلوم ، ، ودعوة المسافر ) رواه البيهقي في شعب الإيمان وحسنه الألباني في الجامع الصغير .
ثانيا : الأدب الثاني من آداب الدعاء : أن يدعو الداعي مستقبلا القبلة ويرفع يديه .
ثالثا : خفض الصوت بين المخافتة والجهر : فعن عائشة – رضي الله عنها في قوله تعالى ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) الإسراء 110 قالت : في الدعاء ، وقال – صلى الله علي وسلم : ( اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنه معكم ، إنه سميع قريب ، تبارك اسمه وتعالى جده ) رواه البخاري 2830
الرابع : عدم الاعتداء في السؤال :قال تعالى ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لايحب المعتدين ) الأعراف 55
والاعتداء فيه : كالدعاء بتعجيل العقوبة ، أو الدعاء بالممتنع عادة أو عقلا أو شرعا ، أو الدعاء في أمر قد فرغ منه ، أو الدعاء بالإثم أو قطيعة الرحم.
الخامس : التضرع والخشوع والرغبة والرهبة : قال تعالى ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) الأعراف 55 وقال تعالى ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ) سورة الأنبياء 90
السادس : أن يجزم بالدعاء ، ويوقن بالإجابة ، ويصدق رجاءه فيه ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاهٍ ) رواه الترمذي وحسنه الألباني في صحيح الجامع .
وعنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ( إذا دعا أحدكم فلا يقل : اللهم اغفر لي إن شئت ،ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة ، فإن لله لا يتعاظمه شيئا أعطاه ) رواه البخاري ومسلم
وقال سفيان بن عيينة ( لايمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فإن الله عز وجل أجاب داء شر الخلق إبليس – لعنه الله – ( قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون .قال فإنك من المنظرين ) الحجر 36-37.
السابع : أن يلح في الدعاء ويعظم المسألة ، ويكرر الدعاء ثلاثا : فعن ابن مسعود – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا ) رواه مسلم ( 1794)
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سأل أحدكم فليكثر ، فإنما يسأل ربه ) رواه ابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (591) .
الثامن : أن يفتتح الدعاء بذكر الله وتمجيده وحمده والثناء عليه ، وأن يختمه بالصلاة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، لحديث فضالة بن عبيد – رضي الله عنه – أنه قال : سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصل على النبي – صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( عجل هذا ) ثم دعاه فقال له أو لغيره : ( إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه عز وجل والثناء عليه ثم يصلي على النبي – صلى اله عليه وسلم ، ثم يدعو بما شاء ) وفي رواية الترمذي : ( فليبدأ بتحميد الله – عز وجل - والثناء عليه ) رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني
وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه الوحشة، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ( أكثر من أن تقول :سبحان الملك القدوس ، رب الملائكة والروح جللت السماوات والأرض بالعزة والجبروت )فقالها الرجل فذهبت عنه الوحشة ( من كتاب فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء للشيخ محمد الغزالي ص 42.
ونحن نلاحظ في هذا الدعاء أن كله تمجيد لله عز وجل وثناء عليه بما هو أهله وهذا كثير جدا في دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم ، فعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه – قال :كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال : ( يا أرض، ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرك ، وشر ما فيك ، وشر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك ، أعوذ بالله من أسد وأسود – وحش وإنسان – ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد )من كتاب فن الذكر والدعاء للغزالي
فقدم صلى الله قبل دائه واستعاذته تمجيد الله عز وجل والثناء عليه .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر ، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ،ووعد الناس يوما يخرجون فيه ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس ، وقعد على المنبر فكبر وحمد الله عز وجل ثم قال : ( إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر إبان زمانه عليكم ، وقد أمركم الله سبحانه وتعالى أن تدعوه ، ووعدكم أن يستجيب لكم ) ثم قال : ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ، لا إله إلا الله يفعل ما يريد ، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت ، أنت الغني ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين ) ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ، ثم حول إلى الناس ظهره وقلب ، أو حول رداءه وهو رافع يديه ثم أقبل على الناس ، ونزل فصلى ركعتين فأنشأ الله عز وجل سحابة فرعدت وبرقت ،ثم أمطرت بإذن الله تعالى فلم يأت مسجده حتى سالت السيول فقال : ( أشهد أن الله على كل شيء قدير ، وأني عبد الله ورسوله ) نقلا عن كتاب فن الذكر والدعاء ص 56
والمتأمل في هذا الدعاء يجد أكثره ثناء على الله عز وجل وتمجيد له سبحانه بأسمائه وصفاته.
التاسع :عدم الاستعجال ، يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم : (( لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل ) قيل : يا رسول الله : وما الاستعجال ؟ قال : قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ) رواه مسلم .
يقول ابن الجوزي –رحمه الله – في كتابه صيد الخاطر : ( رأيت من البلاء العجاب أن المؤمن يدعو فلا يجاب فيكرر الدعاء وتطول المدة ولا يرى أثرا للإجابة ، فينبغي أن يعلم أن هذا من البلاء الذي احتاج إلى الصبر ، وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب .
وقد حكي عن إبراهيم الخواص – رحمة الله عليه – أنه خرج لإنكار منكر فنبحه كلب فمنعه أن يمضي ، فعاد ودخل المسجد وصلى ثم خرج ، فبصبص الكلب له فمضى و أنكر وأزال المنكر ، فسئل عن تلك الحال فقال : كان عندي منكر فمنعني الكلب ، فلما عدت تبت من ذلك فكان ما رأيتم.
وربما كان تأخير الإجابة سببا للوقوف على بابه واللجأ إليه وتعجيلها سببا للاشتغال بما حصل عليه عن المسؤول ، والبلاء المحض ما يشغلك عن المسؤول ، فأما ما يقيمك بين يديه ففيه جمالك .
وقد حكي عن يحيى البكاء أنه رأى ربه عز وجل في المنام فقال : يارب كم أدعوك ولا تجيبني فقال : يا يحيى إني أحب أن أسمع صوتك .
صيد الخاطر لابن الجوزي ص115 – 117 بتصرف ط دار اليقين للنشر والتوزيع
العاشر : الأدب الباطن وهو الأصل في الإجابة : التوبة ، ورد المظالم ، والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة ، فذلك هو السبب القريب في الإجابة ، فعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه أنه قال : ( إني لا أحمل هم الإجابة ولكن هم الدعاء ، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه ) وعنه –رضي الله عنه قال ( بالورع عما حرم الله يقبل الله الدعاء والتسبيح .
وعن عبد الله بن مسعود قال : ( إن الله لا يقبل إلا الناخلة من الدعاء ، إن الله تعالى لا يقبل من مسمِّع ، ولا مراء ، ولا لاعب ، ولا لاهٍ، إلا من دعا ثبت القلب )
وعن أبي الدرداء قال : ( ادع الله في يوم سرائك لعله يستجيب لك في يوم ضرائك )
وعن الحسن أن أبا الدرداء كان يقول : ( جدوا بالدعاء ، فإنه من يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له )
وعن حذيفة قال : ( ليأتين على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا بدعاء كدعاء الغريق ) مجالس رمضانية ص 120
ويقول سيد قطب - رحمه الله - في سياق حديثه في الظلال عن قوله تعالى ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا .... الآية )
( وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم ، وإدراكهم لضعفهم وعجزهم وحاجتهم إلى رحمته وعفوه وإلى مدده وعونه ، وإلصاق ظهورهم إلى ركنه ، والتجائهم إلى كنفه ، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل ما عداه واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه ، كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح )
في ظلال القرآن – سيد قطب . ط 2 دار إحياء الكتب العربية – ج3
ويتحدث الشيخ محمد الغزالي في حديثه عن الأدب الباطن الذي يطلق عليه "الذكر العفيف " الذي عنته الآية الكريمة ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) النازعات 40-41
ما أكثر الألسنة المتحركة بذكر الله ودعائه ،وما أقل جدواها ، وما أندر الأفئدة الخاشعة لذكر الله ، وأحوج العالم إليها ،، إن فساد الأديان يجيء من تحولها إلى ألفاظ ومظاهر ، وما ي يؤدي الدين رسالته إلا يوم ينشئ ضمائر حي ة وسرائر طهورا ، وقلوبا ترمق الشهود الإلهي برهبة ، ذلك هو الذكر الحق . ) فن الذكر والدعاء للغزالي .
المبحث الثالث : أهمية وأثر الدعاء
لو لم يكن من فوائد الدعاء إلا إنه في ذاته عبادة لكفى ، غير أننا هنا نورد ما يعود على الإنسان من فوائد لطرقه أبواب الدعاء ومناجاته ربه عز وجل .
أخرج الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بإسناده عن ثوبان ورواه عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن عبادة بن الصامت أن النبي – صلى الله عليه وسلم قال : ( ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة إلا آتاه الله إياها أو كف عنه من السوء مثلها ، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) مسند الإمام أحمد .
وفي صحيح مسلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم قال ( لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل ) قيل : يا رسول الله : وما الاستعجال ؟ قال : قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ) رواه مسلم .
وإجابة الدعاء وتحقيق ما يتمناه الداعي ويطلبه من ربه عز وجل هو المقصود الأول من الدعاء ، فكلنا يدعو ويسأل طمعا ورغبة في إجابة طلبه .
يقول الله عز وجل : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) .
يقول سيد قطب في معرض حديثه في الظلال عن هذه الآية : ( " فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان "أية رقة وأي انعطاف وأية شفافية وأي إيناس ؟ ، وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود وظل هذا القرب وظل هذا الإيناس ؟، وفي كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة .
( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) إضافة العباد إليه والرد المباشر عليهم منه ، لم يقل فقل لهم إني قريب ، إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال ،
( قريب ) ولم يقل أسمع الدعاء , إنما عجل بإجابة الدعاء ( أجيب دعوة الداع ) .
إنها آية عجيبة تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة والود المؤنس والرضا المطمئن والثقة واليقين ويعيش منها المؤمن في جناب رضى ، وقربى ندية وملاذ أمين وقرار مكين " ا . هـ
سيد قطب، في ظلال القرآن ، ج2- ص83 ، ط دار إحياء الكتب العربية
إن لطف الله قريب ، وإنه سميع مجيب ، وإن التقصير منا إننا بحاجة ماسة إلى أن نلح وندعوه ولا نمل ولا نسأم ، ولا يقول أحدنا دعوت فلم يستجب لي ، بل نمرغ وجوهنا في التراب ونهتف ونلظُّ : يا ذا الجلال والإكرام ، ونعيد ونبدئ تلك الأسماء الحسنى والصفات العلى حتى يجيب الله سبحانه طلبنا أو يختار لنا خيرة من عنده سبحانه وتعالى : " ادعوا ربكم تضرعا وخفية "
ذكر أحد الدعاة في بعض رسائله أن رجلا مسلما ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهله إليها وطلب بأن تمنحه الجنسية فأغلقت في وجهه الأبواب ، وحاول هذا الرجل كل المحاولة ، واستفرغ جهده وعرض الأمر على كل معارفه ، فبارت الحيل وسدت السبل ثم لقي عالمًا ورعًا فشكا إليه الحال قال : عليك بالثلث الخير في الليل ادع مولاك فإن الميسر سبحانه وتعالى وهذا معناه في الحديث :
" إذا سالت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك " الحديث
قال هذا الرجل فو الله لقد تركت الذهاب على الناس وطلب الشفاعات وأخذت أداوم على الثلث الأخير من الليل كما أخبرني هذا العالم وكنت أهتف لله في السحر وأدعوه فما هو إلا بعد أيام تقدمت بمعروض عادي ، ولم اجعل بيني وبينهم واسطة ، فذهب هذا الخطاب ، وما هو إلا أيام وفوجئت في بيتي وإذا أنا أدعى وأسلم الجنسية وكانت في ظروف صعبة.
د/ عائض القرني لا تحزن ص 422 ، 423
ويقول الدكتور عائض القرني في كتابه الرائع ( لا تحزن ) تحت عنوان ( أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ) : "من الذي يفزع إليه المكروب ، ويستغيث به المنكوب ، وتصمد إليه الكائنات ، وتسأله المخلوقات ، وتلهج بذكره الألسن ،وتؤلهه القلوب ؟إنه الله لا إله إلا هو .
وحق عليّ وعليك أن ندعوه في الشدة والرخاء ، والسراء والضراء ، ونفزع إليه في الملمات ، ونتوسل إليه في الكربات ،وننطرح على عتبات بابه سائلين باكين ضارعين منيبين، حينها يأتي مدده ، ويصل عونه ، ويسرع فرجه ويحل فتحه فينجي الغريق ، ويرد الغائب ، ويعافي المبتلى ‘ وشفي المريض ، ويفرج عن المكروب
كل الحبال تنصرم إلا حبله وكل الأبواب توصد إلا بابه ، وهو قريب سميع مجيب ، يجيب المضطر إذا دعاه .
إذا نزلت بك النوازل وألمت بك الخطوب فالهج بذكره ، واهتف باسمه ، واطلب مدده ، واسأله فتحه ونصره ، مرغ الجبين لتقديس اسمه لتحصل على تاج الحرية ، وأرغم الأنف في طين عبوديته ، لتحوز وسام النجاة ، وتبتل إليه تبتيلا حتى تفلح )
د . عائض القرني ، لا تحزن ص 30-31 بتصرف
لكن على المؤمن أن يداوم على الذكر والدعاء ولا يغفل عنه لا في الرخاء ولا في الشدة ويعلم أن الله عز وجل يغضب إذا تركت سؤاله ولم تطرق بابه ، معترفا وموقنا له بالألوهية والربوبية ، ولا يكون كمن قال الله فيهم ( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ) الآية 8 من سورة الزمر .
إن فطرة الإنسان تبرز عارية حين يمسه الضر ويسقط عنها الركام وتتكشف عنها الأوهام فتتجه إلى ربها ، وتنيب إليه وحده ، وهي تدرك أنه لا يكشف الضر غيره وتعلم كذب ما تدعي من شركاء أو شفعاء ، ثم حين يذهب الضر ، ويأتي الرخاء ويرفع عنه البلاء فإن هذا الإنسان الذي تعرت فطرته عند مس الضر يعود فيضع عليها الركام وينسى تضرعه وإنابته وتوحيده لربه وتطلعه إليه في المحنة وحده حين لم يكن غيره يملك أن يدفع عنه محنته .
إنها طبيعة أكثر البشر، لا يذكرون ربهم ولا يتضرعون إليه إلا عند مصيبة كبيرة أو مأزق لا يملك أحد إخراجهم منه ، عندها فقط يبدأ الواحد منهم في اللجوء إلى الله وسؤاله .
وشتان ما بين هذا الصنف من الناس وصنف آخر دائم الذكر والدعاء لله عز وجل الذي يقول عنه الله تعالى : ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ) الزمر 9.
يقول سيد قطب عن هذا الصنف الثاني دائم الذكر والدعاء والخشية والرجاء : ( وهي صورة مشرقة مرهفة ، فالقنوت والطاعة والتوجه وهو ساجد وقائم وهذه الحساسية المرهفة وهو يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، وهذا الصفاء وهذه الشفافية التي تفتح البصيرة ، وتمنح القلب نعمة الرؤية والالتقاط والتلقي ، هذه كلمات كلها ترم صورة مشرقة وضيئة من البشر تقابل تلك الصورة النكدة المطموسة التي رسمتها الآية السابقة ، فلا جرم يعقد هذه الموازنة ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) فالعلم الحق هو المعرفة وهو إدراك الحق ، هو تفتح البصيرة وهو الاتصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود ، وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن ، ولا تهدي إلى حقائق الكون الكبرى ، وهذا هو الطريق إلى العلم الحقيقي والمعرفة المستنيرة .. هذا هو .. القنوت لله ، وحساسية القلب ، واستشعار الحذر من الآخرة والتطلع إلى رحمة الله وفضله ومراقبة الله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة ... هذا هو الطريق )
سيد قطب ، في ظلال القرآن ج24 ،ص 17 – 18
لقد كان رسول الله صلى عليه وسلم يعلم الصحابة اللجوء إلى الله وذكره في كل وقت في السراء والضراء ويعلمهم ويحفظهم الأدعية المؤثرة التي حفظت عنهم ليكونوا دائمي التعلق بالله سبحانه وهذه الكلمات كانت عندهم أغلى من الدنيا وما فيها
( فانظر إلى أبي بكر الصديق – رضي الله عنه يسأل الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يعلمه دعاء ، فقال له : " قل : رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم ".
ويقول للعباس : " اسأل الله العفو والعافية " .
ويقول لعلي : " قل : اللهم اهدني وسددني " .
ويقول لمعاذ : " قل : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " .
ويقول لعائشة : " قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو ، فاعف عني " .
والرابط في هذه الأدعية : سؤال الله عز وجل من رضوانه ورحمته والنجاة من غضبه ، وأليم عقابه ، والعون على عبادته وشكره سبحانه وتعالى ) بتصرف واختصار من كتاب لا تحزن للدكتور عائض القرني ص 303 -304
ولنتأمل القصص الثرآني نجد فيه من الدعاء وما يلحقه من فرج الله وعونه الشيء الكثير وانظر إن شئت في قصة نبي الله زكريا عليه السلام في سور ( آل عمران ومريم والأنبياء ) وقصة أيوب عليه السلام الواردة في أكثر من سورة ، وداء يونس في بطن الحوت ودعاء إبراهيم في سورة البقرة وسورة إبراهيم ودعاء موسى في الطور حين كلفه ربه بالرسالة ( في سورة طه ) وغيرها من الشواهد والقصص التي تدل على قرب الله ممن يدعوه ويلجأ إليه .
خاتمة
وبعد
فإذا نزلت بالمرء النوازل ، واشتدت عليه الخطوب والمصائب فليس له إلا أن يهتف باسم خالق الأرض والسماء ، ومقدر الأقدار وصاحب القضاء ، يسأله من فضله ومدده وعونه ومدده وتوفيقه ويلح في السؤال والدعاء ويديم قرع الأبواب ، مناجيا ربه في كا وقت وفي الأوقات مظنة الإجابه وليحسن الظن بربه الغني الحميد .
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا من فضله وجوده وكرمه ويوفقنا لما يحب ويرضى
( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لاطاقة لنا به ، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين )
( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب )
نتمني لكم دوام التوفيق .